مستقبل الإعلام في ظل الثورة الرقمية
الاستاذ محمد بن سعيد الفطيسي
كما هو واقع حال التطور الهائل الذي حدث في مختلف جوانب ونواحي حياة الإنسان, منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , شهدت الساحة الإعلامية الدولية نقلة هائلة ومتسارعة للغاية في تطور وسائلها وأساليبها وتقنياتها المعلوماتية الحديثة , والحقيقة ان ذلك ليس غريبا أو مستغربا , فنحن باختصار شديد , نعايش اليوم عالما لم يعد يؤمن بحدود النسبية في كل شي , أو حتى فكرة نهاية البشرية على مفترق طريق الذرة والنيترون وألياف السيلكون , حيث تخطئ ذلك التقدم المتوقع حدود الأحلام والأماني البشرية الصغيرة , في عصر الحواسيب العملاقة والعولمة العابرة للقارات , لتتسبب تلك الثورة التكنولوجية الرقمية والصناعية في حدوث أخطر تحول فكري في تاريخ البشرية , انه انفجار النسيج البشري , أو وصول التقدم الإنساني الى حدود " النقطة الأحادية " , تلك النقطة التي لم يكن بالإمكان مناقشتها وتخيلها قبل 80 سنة سوى في أفلام الخيال العلمي
إننا اليوم وبكل جرأة نؤكد معايشتنا للإعراض الأولى لذلك الانفجار الرقمي العظيم , الذي سيعايش فيه الإنسان في السنوات القادمة عصر سيادة الآلة وتفوقها , حيث ستتخطى التكنولوجيا قدرة الإنسان على السيطرة عليها أو استقرائها , ولنعلن فيه ان القرن الحادي والعشرين هو القرن الأول الذي سيتنازل فيه الإنسان شيئا فشي عن سيطرته وسيادته الأزلية على محيطه , لذا فان أي منا لا يمكن ان يتخيل بعد اليوم ماذا سيحصل ؟
ولكن وكما يعلمنا علم دراسة المستقبليات ومناهج الاستشراف الحديث , فانه يمكن لنا ان نسقط توجهاتنا الكبرى الى الأمام او الى الوراء , أو بطرق أخرى كثيرة , مما يعطينا بعض الصور المحتملة لما يمكن ان يكون عليه العالم في نقطة محدودة من الزمن في المستقبل القريب او البعيد , - وللعلم – فإننا ومن خلال هذا النوع من السيناريوهات الاستشرافية المحتملة , لا نقرا المستقبل بقدر ما نحاول ان نفكر به , أو نسعى لسبر أغواره واكتشاف أسراره , وذلك بهدف احتواء مخاطره وتذليل مصاعبه وتحدياته , وقد اخترنا هنا واحدا من أهم تلك النماذج الثورية التي حدثت في حياة الإنسان المعاصر , - واقصد – التطور التكنولوجي في وسائل وأساليب وتقنيات الإعلام الحديث. وقبل ان نبدأ بفك شفرة مستقبل الإعلام وتطوره في القرن الحادي والعشرين , كان لابد لنا من استعراض موجز لتاريخ ذلك التطور الثوري في وسائل وأساليب الإعلام الرقمي , ومنه سنستطيع ان نحدد التقنية التي سنستخدمها لمحاكاة ذلك السيناريو المتوقع , وان نميز ما بين المحاكاة المستخدمة في دراسة تطور التكنولوجيا وتطور الإنسان نفسه , فالإنسان وكما هو معروف يمر بأنماط واضحة , ولكننا لا يمكن ان نصف التكنولوجيا بأنها تمر بنفس الأنماط التي يمر بها الإنسان , لذا وجدنا أنه من الأفضل لنا ان نتوسع في وضع الاحتمالات المستقبلية , وفي وضع السيناريوهات الممكنة لما يمكن ان يحدث في ظل ذلك التطور الهائل في تقنيات وأساليب الإعلام الحديث في القرن الحادي والعشرين , وليس ذلك ممكنا بشكل أفضل من طريقة تقنية اختراع المستقبل نفسه .
وبداية فان البشرية لم تكن تحلم يوما بهذه النقلة النوعية الإعلامية , والتي نقلت الإنسان الى حدود المستحيل , فبعدما كانت وسائل نقل الخبر والمعلومة تقتصر على الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال في العالم , أصبح اغلبنا اليوم يملك تلك الوسيلة , بل وأصبح الكثير منا جزء لا يتجزأ منها , وبعد ان كان البعض منا مجرد مستمع او قارئ لا أكثر , أمسينا مشاركين في نقل الخبر وإعداده , فلم يعد بالضرورة ان يملك الواحد منا مبالغ طائلة ليصبح صاحب صحيفة او مشارك فيها , بل ان كل ما تحتاج إليه هو حاسب ألي , واشتراك في الانترنت , وبعض المعرفة في تصميم المواقع , او الاتصال بشركة متخصصة في ذلك لتتكفل بذلك العمل , ولتحصل بعدها على فرصة كبيرة لتكون جزء من العالم , فتنقل إليه همومك وأحلامك وأفكارك وثقافتك , بل ويمكنك ان تشارك الآخرين في الإعداد ونشر الخبر نفسه في كل أنحاء الأرض .
فالثورة الحاصلة في وسائل الإعلام اليوم , والتي أدخلتنا بطريقة او بأخرى , شئنا أم أبينا الى عالم الانترنت , استطاعت ان تقلص الفجوة ما بين الداخل والخارج , فلم تعد الدول والحكومات كما كانت , بل لم يعد هناك أي إمكانية رسمية – كما يتصور البعض من الغارقين في أوهامهم من القمعيين - لاحتواء ذلك الطوفان ألمعلوماتي الهائل الذي بدأ يخترق كل مسامة من مسامات الحياة , فأصبحنا نعيش الأحداث أولا باول , فما يحدث اليوم في الغرب يصلنا خلال جزء من الثانية في الشرق , والعكس صحيح , فمشاركة عامة الناس في الشؤون العامة قد أصبحت شيئا روتينيا لا يقتصر على الأغنياء في كثير من دول العالم , بل أصبح الجميع اليوم قادرا على المشاركة في صناعة القرار وتحريكه , بل وفي كثير من الدول , أصبح المواطن الفقير قادرا بكل سهولة على المشاركة في صناعة حياته ومستقبله , وذلك من خلال المساهمة المباشرة والمشاركة في تطويع وتشكيل الحياة العامة , وخلق فرص جديدة له.
نعم , لم يعد بالإمكان الوقوف في طريق العولمة الرقمية العابرة للقارات , ومن العبث ان تمارس بعض الدول محاولات القمع ألمعلوماتي وحكر الاطلاع والمشاركة من خلال إغلاق المواقع الالكترونية والمدونات الشخصية وغيرها من وسائل الصحافة الرقمية على سبيل المثال , تحت مفاهيم وقوانين بائدة , لا هم لها سوى تحجير وتطويق الفكر ولو كان ذلك في حدود المقبول منها , فهم هنا أشبه بمن يحاول تخليص ماء البحر من ملحه , وهل ينفد الملح من ماء البحر , وهو جزء لا يتجزأ منه , في وقت كان أولى بان تكون هناك سياسات ديمقراطية لاحتواء الأخطاء والسلبيات في تدفق سيل المعلومات , وذلك عن طريق الاندماج والتوعية والتثقيف الاجتماعي والديني والتربوي , وخلق أبواب أوسع للاطلاع والمشاركة في تلك الأفكار العامة من قبل الحكومات.
وبموجز بسيط عن تاريخ نشأة الصحافة الالكترونية سنكون أكثر فهما لذلك التطور الانقلابي في عالم الإعلام الحديث , ومنه الصورة التي يمكن ان نرسمها للسيناريو الاحتمالي الأكثر توقعا لما يمكن ان يتحول إليه الإعلام في المستقبل , حيث يعود فضل الرياده في هذا المجال لمؤسستي BBC الإخبارية وإندبندنت برودكاستينغ أوثوريتي IBA , وتحديدا في العام 1976 م , حيث بدأت الثمرة بما أطلق عليه وقتها بخدمة تلتكست ، ( فالنظام الخاص بالمؤسسة الأولى ظهر تحت اسم سيفاكس Ceefax بينما عرف نظام المؤسسة الثانية باسم أوراكل racle , وللصحافة الالكترونية والتي يطلق عليها في الدراسات الأدبية والكتابات العربية مسميات أخرى مثل الصحافة الفورية والنسخ الالكترونية والصحافة الرقمية والجريدة الالكترونية ، تعريفات عديدة منها : “ أنها منشور الكتروني دوري يحتوي على الأحداث الجارية سواء المرتبطة بموضوعات عامة او بموضوعات ذات طبيعة خاصة ، ويتم قراءتها من خلال جهاز كومبيوتر وغالبا ما تكون متاحة عبر شبكة الانترنت ، والصحيفة الالكترونية أحيانا تكون مرتبطة بصيغة مطبوعة” , بينما يعرفها البعض الآخر: “بأنها الصحف التي يتم إصدارها ونشرها على شبكة الانترنت سواء كانت هذه الصحف بمثابة نسخ او إصدارات الكترونية لصحف ورقية مطبوعة او موجز لأهم محتويات النسخ الورقية ، او كجرائد ومجلات الكترونية ليست لها إصدارات عادية مطبوعة على الورق وتتضمن مزيجا من الرسائل الإخبارية والقصص والمقالات والتعليقات والصور والخدمات المرجعية حيث يشير تعبير online journalism تحديدا في معظم الكتابات الأجنبية الى تلك الصحف والمجلات الالكترونية المستقلة أي التي ليست لها علاقة بشكل او بآخر بصحف ورقية مطبوعة ) .
وبما أننا نتحدث عن ذلك التطور الكمي والنوعي المتسارع في وسائل الإعلام اليوم , فإننا لا يمكن ان نؤمن بالطبع بحدوث سيناريو خال من المفاجآت تستمر فيه الأشياء على ما هي عليه اليوم بعد عقد من الزمن , وخصوصا أننا نشاهد كل ثانية من الزمن تقدما كبيرا في شتى وسائل الإعلام , وتحديدا في جانبها الثوري الذي يسمى الصحافة الالكترونية او الرقمية , والتي لم يكد يمضي على ظهورها بشكل رسمي أكثر من عقدين من الزمن , حيث أنه من المعروف ان صحيفة هيلزنبورج داجبلاد السويدية كانت هي أول صحيفة في العالم تنشر الكترونيا بشكل كامل وذلك في العام 1990م , حتى انتشرت بعدها تلك الثورة الإعلامية الرقمية في مختلف أرجاء العالم بشكل خيالي وغير متوقع للكثيرين .
وحول موضوع تزايد عدد الصحف الالكترونية وانتشارها في العالم , يقول الدكتور عبدالستار فيكي: - وهو أستاذ باحث ومتخصص في مجال الإعلام - ( لقد تزايد الاتجاه في الصحف على مستوى العالم الى التحول الى النشر الالكتروني بسرعة كبيرة ، ففي عام 1991 لم يكن هناك سوى 10 صحف فقط على الانترنت ثم تزايد هذا العدد حتى بلغ 1600 صحيفة في عام 1996 وقد بلغ عدد الصحف عام 2000 على الانترنت 4000 صحيفة الكترونية على مستوى العالم , كما ان حوالي 99% من الصحف الكبيرة والمتوسطة في الولايات المتحدة الاميركية قد وضعت صفحاتها على الانترنت ) , أما اليوم ونحن على مشارف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , فمن المرجع ان العدد قد وصل الى ما يزيد عن العشرين ألف صحيفة الكترونية موزعة على مختلف أرجاء العالم , وأكثر من 5 ملايين موقع الكتروني موزع ما بين منتديات شخصية ورسمية ومدونات وغيرها من أشكال التبادل الثقافي الرقمي .
أما السيناريو الثاني الذي سنتناوله فهو السيناريو التفاؤلي , وهو السيناريو الذي ستظل فيه شتى وسائل الإعلام تتحسن بشكل أفضل للإنسان عما عليه اليوم , وستستمر فيه وسائل الإعلام بشتى أنواعها في خدمة البشرية وتطوير أفكارهم وثقافاتهم وتحسينها , حيث سنجد ان الإعلام في السنوات العشر القادمة سيطوع الشبكة العنكبوتية لتقليص المسافات الجغرافية والحدود القارية فيما يسمى بالإعلام العابر للقارات , ليخدم الإنسان كما هو اليوم ولكن بشكل أكثر تطورا وفي مختلف المجالات والأصعدة كالصحة والبيئة والاقتصاد والتعليم ووالخ .
ثالثا السيناريو التشاؤمي , وهو سيناريو يشير الى ان الإعلام الحديث بمختلف أشكاله ومجالاته سيصبح أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم , - أي – ان أننا لن نشهد أي تحسن ايجابي قادم في خدمة الأعلام للإنسان , وأخيرا السيناريو الكارثي : وهو سيناريو يدل على ان هناك أوضاعا إعلامية ستسوء بشكل مرعب , وسيكون وضعنا أسوأ بكثير جدا مما نكون قد عانينا منه في الماضي , بحيث سنشهد في السنوات القادمة تحولا إعلاميا خطيرا سيقلب أوضاع البشرية رأسا على عقب , بحيث سيكون الإعلام الذي نتأمل ان يكون وسيلة لخدمة لبشرية , سببا من أسباب الفوضى والدمار وشرارة الخراب الذي سيقضي على البشرية .
وختاما فان أفضل الاحتمالات والسيناريوهات حدوثا خلال العقد القادم على اقل تقدير – من وجهة نظري الشخصية – , هو ذلك السيناريو الذي يختلط فيه التفاؤل بالتشاؤم المشوب بالفوضى والخوف , حيث ان لغة التفاؤل تشير الى انه وخلال المرحلة القادمة سيتم الوصول الى بداية عصر الثورة الرقمية اللامتناهية , والتي ستقلص شيئا فشيئا من استخدام الورق والطباعة والحبر وغيرها من الوسائل الإعلامية التقليدية المكلفة والمحدودة , وبالتالي إمكانية التوسع في سرعة ودقة نقل المعلومة والخبر الى مختلف أرجاء العالم , مع التأكيد على حدوث الكثير من التجاوزات المسيئة لحرية الإعلام والإنسان , وذلك في محاولة البعض لاحتواء هذا الوحش الذي بدأ يخترق الكثير من الأماكن التي كانت تعتبر حتى وقت قريب من المحرمات على العامة , وهو ما يجعل من البعض يركن الى التشاؤم والخوف في كثير من الأوقات.
لذا فان من المطلوب الانتباه إليه عربيا , وخصوصا خلال المرحلة القادمة من الثورة الإعلامية الرقمية والتكنولوجية , - كون الدول العربية وتحديدا الخليجية منها – من أكثر الدول تقصيرا في هذا المجال المستقبلي الحتمي , هو ضرورة تبني واحتضان العديد من الصحف والمواقع الرسمية الالكترونية , كبديل غير نهائي للصحف الورقية التي لابد من المحافظة عليها وتطويرها بالطبع , وفي مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والرياضية وغيرها , - فللأسف الشديد – لا زال البعض من تلك الدول , ونحن على مشارف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , لا يملك إعلاما رقميا مستقلا , فاغلبه يقتصر على النسخ الالكترونية الخاصة بالمطبوعات الصحفية الورقية اليومية , وبينما كان من الضرورة احتضان وتشجيع ظهور الصحافة الالكترونية والمواقع الرقمية والمدونات الشخصية المستقلة , وفي مختلف الجوانب والمجالات الحياتية , اتجه البعض الى محاولة إجهاضها بالقوة والغلق والقمع الرسمي , وهو ما أدى , او سيؤدي – وللأسف – في نهاية المطاف الى ردة فعل سلبية اخطر بكثير من خطورة محتوى تلك المدونات والمواقع نفسها , وهو ما نحذر من خطورته في حل بقاء الحال على ما هو عليه اليوم خلال المرحلة القادمة .
* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
* رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية